”كرسي جدي ما زال يهتزّ على
أسوار أوروك
تحته يعبر النهر، يتقلّب فيه
الأحياء والموتى“
سركون بولص، ”عظمة أخرى لكلب القبيلة“
يتجاور الأحياء والموتى بشكل ملفت للنظر في ديوان سركون بولص الأخير ”عظمة أخرى لكلب القبيلة.“ فنراهم يتقلبون في النهر الذي يجري على أول صفحة فيه. ويعاودون الظهور، سوية، في عدد من قصائد الديوان الأخرى:
”الأحياء والأموات تفاهموا/على الارتماء في حضن السكينة.“. . .”إنه نفس الفراغ الطالع/من حضرة آخر الليل في أية مدينة/متخمة بالأحياء والموتى: باريس، لندن، نيويورك.. . .”فلا أحد وراءه، غير هذا الميت الحي/الموزّع بين بينٍ في أناه، بلا أنا.“ وحتّى آخر صفحة في الديوان، حيث نقرأ: ”يا لها من رحلة./الميّت والحي ضيوف في حانة سيدوري/من يحتاج إلى الآلهة؟“
ويجب أن نضيف، في هذا السياق، أن الموتى، بالذات، يحتلون حيّزاً مهمّاً في قصائد المجموعة وشخوصها فيلاحقون الشاعر ويعاودونه: “دفتري المفتوح تحت عيني/مصيدة لأرواح موتاي/يمرّون على صفحاته في شبه رفيف/أسمعه مثل لغتي الأولى.” أو: “حيث أستلقي مغمض العينين/وأطفو في سريري قبيل الفجر/قبل أن يشحب الأفق، وتنسحب فلول الأموات/عائدة إلى حجورها الأبدية/ملقية وراءها على عالم الأحياء نظرة أخيرة. و في قصيدة أخرى: “أنا من لا يصلح لترتيب المراثي/رغم أن أمواتي كثيرون، وقبورهم/موزّعة في البراري، تنبشها الذئاب.” وتتبلور جدلية الأحياء والموتى هذه وتتعمّق أهميتها في قصيدتين يهيكلهما حوار بين الشاعر والموتى، كما سنحاول أن نبين في هذه القراءة الموجزة، وهما “جئت إليك من هناك” و “طفلة الحرب.” والأولى حوار متخيّل مع شبح الكاتب العراقي يوسف الحيدري (١٩٣٣-١٩٩٣) والثانية مع طفلة عراقية أهدى الشاعر القصيدة إليها “إلى طفلة عراقية ولدت في الحرب، وفي الحرب ماتت.”
قد لا يكون حضور كل هؤلاء الموتى وأشباحهم في نصوص شاعرنا العراقي مفاجأة، خصوصاً أن تاريخ العراق يحتشد بالموتى حتى ليكاد البلد يكون قبراً جمعياً مفتوحاً على مصراعيه، مازال يلتهم المزيد كل يوم. لكنني أزعم أن طريقة سركون في التخاطب مع الموتى في نصوصه تتجاوز حدود الرثاء، وتغري بمحاولة إنجاز قراءة أعمق لشعره. كما تستحق وقفة تأمّل لخصوصيتها ومن أجل استكشاف تبعاتها إذا ما قرأناها في الإطار الأعم للعلاقة بين الأحياء والموتى في الخطاب الثقافي/السياسي.
يعتمد التعامل مع الماضي والذاكرة وإعادة إنتاجهما في أحد أبعاده على كيفية مخاطبة الموتى، حرفياً ومجازياً. فعلاقة الأحياء بالموتى علاقة سياسية وحيز متنازع عليه بشكل أو بآخر. وذكرى الموتى من ضحايا العنف السياسي هي رأسمال رمزي يتم استثماره واحتكاره لشرعنة رواية تاريخية معينة بدلاً من أخرى ولهيمنة خطاب دون غيره. وبهذا المعنى فالموتى لا يغيبون كلياً عن عالم الأحياء. وهنا تكمن أهميّة الشبح كاستعارة، وكحضور يخلخل ويضبب الحدود بين عالمي الحياة والموت ويحرّض على إعادة طرح أسئلة جوهرية، على أولئك الذين مازالوا في عالم الأحياء، في مواجهة مع ما هو وراء الحاضر الآني. سبق لدريدا أن كتب عن الأشباح و”الشبحية” وعلاقتهما بالعدالة والتفكير بالمستقبل في كتابه “أطياف ماركس.” (الترجمة الإنكليزية، روتليج، ١٩٩٤) مؤكداً أنه ” لا بد من الحديث عن الشبح، إلى الشبح، ومعه، من اللحظة التي لا تبدو فيها أي أخلاق أو سياسة، سواء كانت ثورية أم لا، ممكنة أو معقولة، أو عادلة دون أن تعترف أساساً بمسؤولية نحو أولئك الذين لم يعودوا هنا أو الذين لم يصلوا بعد، الذين يعيشون حالياً، سواء كانوا أحياء أم أموات.” (ص.١٨) ويضيف أن العيش بعدالة سيتحقق “ بين الحياة وبين الموت فقط. لا في الحياة لوحدها، ولا في الموت لوحده. وما يحدث بين الإثنين. . . وبين الحياة وبين الموت، لا يمكن أن يبقي علي نفسه إلا ببعض الأشباح.”
قد تثير هذه القراءة اعتراضات أولئك الذين يحرصون على إبعاد السياسة عن الشعر وعلى صيانة جمالياته من وزرها. لكن اعتراضات كهذه تنطلق من فهم إشكالي وسطحي للسياسة ولعلاقة الشعر بها. نصوص سركون غنية وتغري بمغامرات قراءة متنوعة كما أن الهواجس السياسية، بالمعنى الأعمق للمصطلح، بارزة في ديوانه الأخير وهي لم تكن غائبة أساساً في دواوينه السابقة.
الديوان الأخير مسكون بالأشباح الذين يحومون في هذا الحيّز الذي يتحدّث عنه دريدا، بين الحياة وبين الموت، وبين الحاضر وبين ماضيه أو مستقبله. في قصيدة “طفلة الحرب” يرى الشاعر شبح طفلة مفقودة في الحرب (نعرف أنها ماتت كما يفيد الإهداء): “في الساعة الأولى من الفجر. إنها تنتظر ارتطامي/بجدار الحقيقة.” الطفلة شبح ذات منسية: “لقد أخذوا أهلي في سفينة/إلي العالم الآخر/كنت أعرف دوماً/أنهم سيتركونني هنا، وحدي على الشاطئ.كنت أعرف. . .” على الرغم من أنها ميتة، إلا أنها لم ولن تصل إلى عالم الأموات. بل تبقى في عالم الأحياء وتعيش في حيز الشاعر الشخصي “واقفة في نهاية الممر” ليلها الأزلي يعاود فجره ووجودها هو الرابط بين عالمين. يطرح عليها الشاعر أسئلة “تعرف هي أجوبة/عليها. . . ” لا تجيب عليها بصورة مباشرة ولا تطالب بشيء. بل تكتفي بسرد حكايتها وتنتهي القصيدة بجملة غير مكتملة.
في قصيدة “جئتُ إليك من هناك” هناك مواجهة أخرى مع شبح آخر يلاقيه الشاعر قادماً من ”هناك“ والـ ”هناك“ هذه هي العراق، لكنها أيضاً حيّز الدمار الذي يتحدّث عنه الشبح (تتكرر عبارة ”إنه الدمار“مرتين). و تبرز ثيمة الموتى الأحياء في هذه القصيدة أيضاً إذ يبعث الموتى بسلامهم من المقابر:”اللاجئون على الطرقات/الأطفال في التوابيت/النساء يندبن في الساحات/أهلك بخير/يسلّمون عليك من المقابر/بغداد سنبلة تشبّث بها الجراد/جئت إليك من هناك/إنّه الدمار/قال لي/وسار مبتعداً، واختفى/في كل مكان.“
لا يطالب الموتى في هذه القصائد بالانتقام أو بأفعال محدّدة. وكل ما تطالب به أشباحهم هو أن نصغي إليها كي لا ننسى و، ربما، كي لا نصادر ذكراها وذاكرتها ونحولها إلى سلعة في سوق السياسة. كما لا تطالب بأن يتحدّث أحد ما باسمها أو بالنيابة عنها . ويتناقض هذا بشكل صارخ مع الخطابات السائدة عن الموتى في الحيّز السياسي. من اللافت أن الشبح في "جئت إليك من هناك" لا يعود إلى العراق ولا إلى المقبرة. بل يسير مبتعداً ويختفي "في كل مكان". لعلّه سيظل يحوم ويواجه الأحياء في كل مكان. فعليهم، أي الأحياء، أن يتعلموا، كما يقول دريدا، ”التعايش مع الماضي ومع الموت وأن يتعلموا أبجدية الحديث مع أشباح الموتى، لكن ليس بالنيابة عنهم أو باسمهم، هذا إن كانوا يرغبون في الوصول إلى ما يقترب من العدالة في المستقبل المستحيل.“